من أمتع الموضوعات التي اعتنى بها علماء اللغة ذكرهم التطور التاريخي للكلمة، وبيان التدرج في استعمالها عبر الفترات التي مرَّت بها اللغة العربية.
ومن ذلك ما يذكره ويعتني به الشهاب الخفاجي في حاشيته على تفسير البيضاوي، حيث يذكر طرفا من هذا كلما وجد المناسبة له، وإليكم أيها الأحبة هذين المثالين من حاشيته:
المثال الأول: كلامه عن أصل الوضع اللغوي لكلمة: (الكتاب) وتطور معناها. قال الشهاب - في تفسير قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:2]-: قال الراغب (أي في كتابه "المفردات"): "الكَتْبُ: ضم أديم إلى أديم بالخياطة، يقال: (كتبت السقاء). وفي المتعارف: ضم الحروف بعضها إلى بعض، والأصل في الكتابة: النظم بالخط. وقد يقال ذلك للمضموم بعضه إلى بعض باللفظ، لكن قد يستعار كل واحد للآخر؛ ولذا سُمِّي (كتاب الله) وإن لم يكن كتاباً..." وحاصله أن أصل حقيقته في اللغة: مطلق الضم، ثم خُصَّ بفرد منه وهو ضم الحروف بعضها إلى بعض في الخط، وصار حقيقة فيه لغة أيضاً، ثم شاع في عرف اللغة إطلاقه على الخط والصحيفة المكتوب فيها، فلا يسمى قبل الكتابة كتاباً.
المثال الثاني: قال تعالى: {وَابْتَلُواْ اليَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النِكَاحَ فِإنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6]. توقف الشهاب عند كلمة: {آنَستُمْ} وتكلم عن معنى الإيناس فقال: أصل معنى الإيناس: النظر من بُعد مع وضع اليد على العين إلى قادم ونحوه مما يُؤنس به، ثم عمَّ في كلامهم. قال الشاعر:
آنستْ نبأةً وأفزعها القناص عصراً وقد دنا الإمساء
أي: أحست أو أبصرت... ثم استعير للتبين؛ أي: علم الشيء بيّناً؛ إذ الرُّشْد مما يُعلم ولا يُبصر.
كما أن مما تميزت به هذه الحاشية هو ذكر التعليل اللغوي للأسماء العربية، فيذكر اللفظة ثم يذكر سبب تسميتها بهذا الاسم، وإليكم هذه الأمثلة:
أولاً: تعليل تسمية (الناس) بهذا الاسم: ذكر ذلك عند قوله تعالى: {وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَا بِاللهِ وَبِاليَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِين} [البقرة:8]؛ فبيَّن الأقوال في هذه المسألة، وملخص كلامه أن:
1. هذه الكلمة مأخوذة من (أَنِسَ) من (الأُنس) ضد الوحشة؛ لأن الإنسان يأنس بجنسه، واستشهد على ذلك بقول الشاعر:
وما سُمِّي الإنسان إلا لأُنسـه ولا القلب إلا أنه يتقلَّب
2. هذه الكلمة مأخوذة من (آنس) بمعنى: أبصر. فسُمِّي الإنسان بذلك؛ لأنه ظاهر محسوس.
3. مِن (نَسِيَ) بالقلب؛ لقوله تعالى في آدم: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [طه:115]. قال الشاعر:
نسيت وعدك والنسيان مغتفر فاغفر فأول ناس أول الناس
ثانياً: تعليله اشتقاق (المَيْسِر): فعند قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الخَمْرِ وَالمَيْسِر} [البقرة:219] ذَكَرَ أن الميسر "مصدر، وفعله: (أيسر) من اليسار؛ لأنه يأخذ ما يأخذه بيسر؛ أي: سهولة، أو الهمزة فيه للسلب؛ لأنه يسلب اليسار".
ثالثاً: بيان سبب تسمية (المسجد الأقصى) بهذا الاسم: ذكره عند قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء:1]. قال البيضاوي في نفسير الآية: "{إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى}: بيت المقدس؛ لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد".
قال الشهاب: "قوله (لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد). وجهٌ لتسميته بـ(الأقصى) بمعنى الأبعد؛ فهو أبعد بالنسبة إلى مَن بالحجاز، وفي "تاريخ القدس" أنه سُمِّي به لأنه أبعد المساجد التي تُزار من المسجد، وقيل: لأنه ليس وراءه موضع عبادة، وقيل: لبعده عن الأقذار والخبائث".
بما سبق أيها الإخوة أحببت أن أشير لهذه النكت العلمية الدقيقة، وغزارة فائدتها، حيث يفيد منها اللغوي وغيره من العلماء..
كما أحببت أن أسأل هل قام أحد من العلماء بإفراد مثل هذا النوع بالتأليف؟
أرجو أن أجد عندكم الفائدة والاستحسان
ومن ذلك ما يذكره ويعتني به الشهاب الخفاجي في حاشيته على تفسير البيضاوي، حيث يذكر طرفا من هذا كلما وجد المناسبة له، وإليكم أيها الأحبة هذين المثالين من حاشيته:
المثال الأول: كلامه عن أصل الوضع اللغوي لكلمة: (الكتاب) وتطور معناها. قال الشهاب - في تفسير قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:2]-: قال الراغب (أي في كتابه "المفردات"): "الكَتْبُ: ضم أديم إلى أديم بالخياطة، يقال: (كتبت السقاء). وفي المتعارف: ضم الحروف بعضها إلى بعض، والأصل في الكتابة: النظم بالخط. وقد يقال ذلك للمضموم بعضه إلى بعض باللفظ، لكن قد يستعار كل واحد للآخر؛ ولذا سُمِّي (كتاب الله) وإن لم يكن كتاباً..." وحاصله أن أصل حقيقته في اللغة: مطلق الضم، ثم خُصَّ بفرد منه وهو ضم الحروف بعضها إلى بعض في الخط، وصار حقيقة فيه لغة أيضاً، ثم شاع في عرف اللغة إطلاقه على الخط والصحيفة المكتوب فيها، فلا يسمى قبل الكتابة كتاباً.
المثال الثاني: قال تعالى: {وَابْتَلُواْ اليَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النِكَاحَ فِإنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6]. توقف الشهاب عند كلمة: {آنَستُمْ} وتكلم عن معنى الإيناس فقال: أصل معنى الإيناس: النظر من بُعد مع وضع اليد على العين إلى قادم ونحوه مما يُؤنس به، ثم عمَّ في كلامهم. قال الشاعر:
آنستْ نبأةً وأفزعها القناص عصراً وقد دنا الإمساء
أي: أحست أو أبصرت... ثم استعير للتبين؛ أي: علم الشيء بيّناً؛ إذ الرُّشْد مما يُعلم ولا يُبصر.
كما أن مما تميزت به هذه الحاشية هو ذكر التعليل اللغوي للأسماء العربية، فيذكر اللفظة ثم يذكر سبب تسميتها بهذا الاسم، وإليكم هذه الأمثلة:
أولاً: تعليل تسمية (الناس) بهذا الاسم: ذكر ذلك عند قوله تعالى: {وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَا بِاللهِ وَبِاليَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِين} [البقرة:8]؛ فبيَّن الأقوال في هذه المسألة، وملخص كلامه أن:
1. هذه الكلمة مأخوذة من (أَنِسَ) من (الأُنس) ضد الوحشة؛ لأن الإنسان يأنس بجنسه، واستشهد على ذلك بقول الشاعر:
وما سُمِّي الإنسان إلا لأُنسـه ولا القلب إلا أنه يتقلَّب
2. هذه الكلمة مأخوذة من (آنس) بمعنى: أبصر. فسُمِّي الإنسان بذلك؛ لأنه ظاهر محسوس.
3. مِن (نَسِيَ) بالقلب؛ لقوله تعالى في آدم: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [طه:115]. قال الشاعر:
نسيت وعدك والنسيان مغتفر فاغفر فأول ناس أول الناس
ثانياً: تعليله اشتقاق (المَيْسِر): فعند قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الخَمْرِ وَالمَيْسِر} [البقرة:219] ذَكَرَ أن الميسر "مصدر، وفعله: (أيسر) من اليسار؛ لأنه يأخذ ما يأخذه بيسر؛ أي: سهولة، أو الهمزة فيه للسلب؛ لأنه يسلب اليسار".
ثالثاً: بيان سبب تسمية (المسجد الأقصى) بهذا الاسم: ذكره عند قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء:1]. قال البيضاوي في نفسير الآية: "{إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى}: بيت المقدس؛ لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد".
قال الشهاب: "قوله (لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد). وجهٌ لتسميته بـ(الأقصى) بمعنى الأبعد؛ فهو أبعد بالنسبة إلى مَن بالحجاز، وفي "تاريخ القدس" أنه سُمِّي به لأنه أبعد المساجد التي تُزار من المسجد، وقيل: لأنه ليس وراءه موضع عبادة، وقيل: لبعده عن الأقذار والخبائث".
بما سبق أيها الإخوة أحببت أن أشير لهذه النكت العلمية الدقيقة، وغزارة فائدتها، حيث يفيد منها اللغوي وغيره من العلماء..
كما أحببت أن أسأل هل قام أحد من العلماء بإفراد مثل هذا النوع بالتأليف؟
أرجو أن أجد عندكم الفائدة والاستحسان